شُبَهُ الجاحدين على الوحي
الشبهة الأولى
زعموا أن القرآن الكريم من عند محمد صلى الله عليه وسلم ابتكر معانيه، وصاغ أسلوبه، وليس وحيًا يُوحَى
وهذا زعم باطل، فإنه عليه الصلاة والسلام إذا كان يدَّعي لنفسه الزعامة ويتحدى الناس بالمعجزات
لتأييد زعامته فلا مصلحة له في أن ينسب ما يتحدى به الناس إلى غيره
وكان في استطاعته أن ينسب القرآن لنفسه
ويكون ذلك كافيًا لرفعة شأنه، والتسليم بزعامته، ما دام العرب جميعًا على فصاحتهم قد عجزوا عن معارضته
بل ربما كان هذا أدعى للتسليم المطلق بزعامته لأنه واحد منهم أتى بمالم يستطيعوه.
ولا يقال إنه أراد بنسبة القرآن إلى الوحي الإلهي أن يجعل لكلامه حرمة تفوق كلامه
حتى يستعين بهذا على استجابة الناس لطاعته وإنفاذ أوامره، فإنه صدر عنه كلام نسبه لنفسه
فيما يسمى بالحديث النبوي ولم ينقص ذلك من لزوم طاعته شيئًا، ولو كان الأمر كما يتوهمون لجعل كل أقواله من كلام الله تعالى.
وهذا الادعاء يفترض في رسول الله أنه كان من أولئك الزعماء الذين يعبرون الطريق في الوصول إلى غايتهم على قنطرة من الكذب والتمويه
وهو افتراض يأباه الواقع التاريخي في سيرته عليه الصلاة والسلام،
وما اشتهر به من صدق وأمانة شهد له بهما أعداؤه قبل أصدقائه.
لقد اتهم المنافقون زوجه عائشة بحديث الإفك، وهي أحب زوجاته إليه، واتهامها يمس كرامته وشرفه، وأبطأ الوحي،
وتحرَّج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحرَّج صحابته معه حتى بلغت القلوب الحناجر،
وبذل جهده في التحري والاستشارة، ومضى شهر بأكمله،
ولم يزد على أنه قال لها آخر الأمر: "أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فيسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله"
راجع حديث الإفك في الصحيحين وفي غيرهما، وتفسير القصة في سورة النور,
وظل هكذا إلى أن نزل الوحي ببراءتها، فماذا كان يمنعه لو أن القرآن كلامه من أن يقول كلامًا يقطع به ألسنة المتخرصين،
ويحمي عرضه؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ, لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ, ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ, فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
الحاقة: 44-47
واستأذن جماعة في التخلف عن غزوة تبوك وأبدوا أعذارًا، وكان منهم مَن انتحل هذه الأعذار من المنافقين وأذن لهم، فنزل القرآن الكريم معاتبًا له لخطأ رأيه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} التوبة: 43.
ولو كان هذا العتاب صادرًا عن وجدانه تعبيرًا عن ندمه حين تبين له فساد رأيه لما أعلنه عن نفسه بهذا التعنيف الشديد والعتاب القاسي
ونظير هذا معاتبته -صلى الله عليه وسلم- في قبول الفداء من أسرى بدر
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}الأنفال: 67، 68
ومعاتبته في توليه عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى -رضي الله عنه- اهتمامًا بنفر من أكابر قريش في دعوتهم إلى الإسلام
{عَبَسَ وَتَوَلَّى, أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى, وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى, أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى, أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى, فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى, وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى, وَهُوَ يَخْشَى, فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى, كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}
عبس: 1-11.. والمعهود في سيرته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان منذ نعومة أظفاره مثلًا فريدًا في حسن الخُلُق،
وكريم السجايا، وصدق اللَّهجة، وإخلاص القول والعمل، وقد شهد له بهذا قومه عندما دعاهم في مطلع الدعوة وقال لهم:
"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بظهر هذا الوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك كذبًا"
رواه البخاري ومسلم. وكانت سيرته العطرة مهوى أفئدة الناس إليه للدخول في الإسلام،
عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: "لما قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، انجفل الناس إليه،
وقيل: قَدِمَ رسول الله، قَدِمَ رسول الله، فجئتُ في الناس لأنظر إليه فلما استثبت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب"رواه الترمذي بسند صحيح.
وصاحب هذه الصفات العظيمة التي يُتَوِّجها الصدق ما ينبغي لأحد أن يمتري في قوله حينما أعلن نفسه بأنه ليس واضع ذلك الكتاب
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}
يونس: 15
( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان )