الشبهة الثانية
زعم الجاهليون قديمًا وحديثًا أنه عليه الصلاة والسلام كان له من حدة الذكاء، ونفاذ البصيرة، وقوة الفراسة، وشدة الفطنة، وصفاء النفس، وصدق التأمل
ما يجعله يدرك مقاييس الخير والشر، والحق والباطل، بالإلهام، ويتعرف على خفايا الأمور بالكشف والوحي النفسي،
ولا يخرج القرآن عن أن يكون أثرًا للاستنباط العقلي، والإدراك الوجداني عبر عنه محمد بأسلوبه وبيانه. وأي شيء في القرآن يعتمد على الذكاء والاستنباط والشعور؟
فالجانب الإخباري -وهو قسم كبير من القرآن- لا يماري عاقل في أنه لا يعتمد إلا على التلقي والتعلم.
لقد ذكر القرآن أنباء من سبق من الأمم والجماعات والأنبياء والأحداث التاريخية بوقائعها الصحيحة الدقيقة
كما يذكر شاهد العيان مع طول الزمن الذي يضرب في أغوار التاريخ إلى نشأة الكون الأولى بما لا يدع مجالًا لإعمال الفكر ودقة الفراسة،
ولم يعاصر محمد -صلى الله عليه وسلم- تلك الأمم وهذه الأحداث في قرونها المختلفة حتى يشهد وقائعها وينقل أنباءها،
كما لم يتوارث كتبها ليدرس دقائقها ويروي أخبارها:
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ, وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}
وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}القصص: 44، 45
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} هود: 49
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} يوسف: 3
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} آل عمران: 44
ومنها أنباء دقيقة تتناول الأرقام الحسابية التي لا يعلمها إلا الدارس البصير، ففي قصة نوح
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} العنكبوت: 14
وهذا موافق لما جاء في سفر التكوين من التوراة. وفي قصة أصحاب الكهف
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} الكهف: 25
وهي عند أهل الكتاب ثلاثمائة سنة شمسية، والسنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية
فمن أين أتى محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الدقائق الصحيحة لو لم يكن يُوحى إليه وهو الرجل الأمي الذي عاش في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب؟
وقد كان أهل الجاهلية الأولى أذكى من ملاحدة الجاهلية المعاصرة، فإن أولئك لم يقولوا إن محمدًا استقى هذه الأخبار من وحي نفسه كما يقول هؤلاء
بل قالوا إنه درسها وأُمليت عليه {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} الفرقان: 5
ولم يتلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درسًا على معلم قط -كما سيأتي- فمن أين جاءته هذه الأنباء فجأة بعد أن بلغ الأربعين؟ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}النجم: 4..
هذا في الجانب الإخباري. أما في سائر العلوم التي تضمنها القرآن فإن قسم العقائد يتناول كذلك أمورًا تفصيلية عن بدء الخلق ونهايته،
والحياة الآخرة وما فيها من الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، وما يتبع ذلك من الملائكة وأوصافهم ووظائفهم -
وهذه معلومات لا مجال فيها لذكاء العقل وقوة الفراسة البتة:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}
المدثر: 31..
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يونس: 37
ناهيك بما تضمنه القرآن من أحكام قاطعة عن أخبار المستقبل التي تجري على سُنن الله الاجتماعية،
في القوة والضعف، والصعود والهبوط، والعزة والذلة، والبناء والدمار:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شيئًا} النور: 55،
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
الحج: 40،41
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
الأنفال: 53
أضف إلى هذا أن القرآن الكريم قد حكى عن رسول الله اتباعه للوحي:
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} الأعراف: 203
وأنه بشر لا يعلم الغيب ولا يملك من أمر نفسه شيئًا
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}الكهف: 110.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} الأعراف: 188
وقد كان عليه الصلاة والسلام عاجزًا عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين شاهدين أمامه ليقضي بينهما وهو يسمع أقوالهما فهو بلا شك أشد عجزًا عن إدراك ما فات وما هو آت:
سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها"
رواه البخاري ومسلم وأصحاب السُّنَن.
قال الدكتور محمد عبد الله دراز
"هذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم "الوحي النفسي" زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد
وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله، فقد صوَّروا النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا ذا خيال واسع وإحساس عميق فهو إذن شاعر،
ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يُخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته
ووجداناته فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام، على أنهم لميطيقوا الثبات طويلًا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة "الوحي النفسي
حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة،
فهو إذن قد علمه بشر, فأي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثًا معادًا يضاهون به قول جهال قريش؟
وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منتسخة، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه،
وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى:
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} البقرة: 118
وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله إنه كان صادقًا أميناً، وإنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي، لأن أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم،
وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الأنعام: 33..
فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها -بزعمهم من قبل-
فليقولوا إذن إنه افتراه ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل، ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم يدعون الإنصاف والتعقل،
ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون" راجع: النبأ العظيم
( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان )