الشبهة الثالثة
زعم الجاهليون قديمًا وحديثًا أن محمدًا قد تلقى العلوم القرآنية على يد معلم
وهذا حق، إلا أن المعلم الذي تلقى عنه القرآن هو مَلَك الوحي، أما أن يكون له معلم آخر من قومه، أو من غير قومه فلا
إنه عليه الصلاة والسلام قد نشأ أميًّا وعاش أميًّا، في أمة أمية لم
يُعرف فيها أحد يحمل وسام العلم والتعليم، وهذا واقع يشهد به التاريخ، ولا مرية فيه
أما أن يكون له معلم من غير قومه فإن الباحث لا يستطيع أن يقع في التاريخ على كلمة واحدة تشهد بأنه لقي أحدًا من العلماء حدثه عن الدين قبل إعلان نبوته
حقيقة إنه رأى في طفولته بحيرى الراهب في سوق بصرى بالشام، ولقي في مكة ورقة بن نوفل إثر مجيء الوحي،
ولقي بعد الهجرة علماء من اليهود والنصارى، لكن المقطوع به أنه لم يتلق عن أحد من هؤلاء شيئًا من الأحاديث قبل نبوته،
أما بعد النبوة، فقد كانوا يسألونه مجادلين فيستفيدون منه ويأخذون عنه،
ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ شيئًا عن واحد منهم لما سكت التاريخ عنه، لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس،
لا سيما الذين يقفون للإسلام بالمرصاد، والكلمات التي ذكرها التاريخ عن راهب الشام أو ورقة بن نوفل كانت بشارة بنبوته عليه الصلاة والسلام1 أو اعترافًا بها2
ونقول لهؤلاء الذين يزعمون أن محمدًا كان يعلمه بشر: ما اسم هذا المعلم؟
وعندئذ نرى الجواب المتهافت المتداعي في "حدَّاد رومي" ينسبون إليه ذلك، فكيف يستساغ عقلًا أن تكون العلوم القرآنية صادرة من رجل لم تعرفه
قال بحيرى عندما رأى في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيما النبوة: "إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم"
قال ورقة عندما سمع قصة النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفة الوحي وقد أخذته خديجة إليه يرجف فؤاده:
"هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، قال: "أومخرجي هم؟ "
قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا".
كان غلامًا نصرانيًّا، واختلف أهل السيرة في اسمه فقيل: اسمه "سبيعة"، وقيل: "يعيش" وقيل: "بلعام".
مكة عالماً متفرغًا لدراسة الكتب، بل عرفته حدَّادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، عامي الفؤاد،
أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة بالنسبة إلى العرب:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
ولقد كان العرب أحرص الناس على دفع هذا القرآن إمعانًا في خصومة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم عجزوا ووجدوا السبل أمامهم مغلقة,
وباءت كل محاولاتهم بالفشل, فما للملحدين اليوم -وقد مضى أربعة عشر قرنًا على ذلك- يبحثون في قمامات التاريخ ملتمسين سبيلًا من تلك السبل الفاشلة نفسها؟!
وبهذا يتبين أن القرآن الكريم لا يوجد له مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه، ولا عند أحد من البشر، فهو تنزيل الحكيم الحميد.
ونشأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيئة أمية جاهلية، وسيرته بين قومه، من أقوى الدلائل على أن الله قد أعده لحمل رسالته،
وأوحى إليه بهذا القرآن هداية لأمته: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
يقول الأستاذ محمد عبده في رسالة التوحيد: "من السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته،
ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه، لا سيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عُصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه،
ولا عضد إذا عزم يؤيده، فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال،
ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده"
كأمية بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل
ولكن الأمر لم يجر على سننه، بل بُغِّضَت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة،
وما جاء في الكتاب من قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى}
لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخُلُق العظيم، حاشى لله، إن ذلك لهو الإفك المبين،
وإنما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين،
وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته
( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان )