كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول
وحي الله إلى أنبيائه إما أن يكون بغير واسطة، وهو ما ذكرناه آنفًا. وكان منه الرؤيا الصالحة في المنام، والكلام الإلهي من وراء حجاب يقظة، وإما أن يكون بواسطة مَلَك الوحي وهو الذي يعنينا في هذا الموضوع لأن القرآن الكريم نزل به.
ولا تخلو كيفية وحي المَلَكِ إلى الرسول من إحدى حالتين
الحالة الأولى: وهي أشد على الرسول، أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، والصوت القوي يثير عوامل الانتباه فتُهَيَّأ النفس بكل قواها لقبول أثره، فإذا نزل الوحي بهذه الصورة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه وهو مستجمع القوى الإدراكية لتلقيه وحفظه وفهمه، وقد يكون هذا الصوت حفيف أجنحة الملائكة المشار إليه في الحديث: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كالسلسلة على صفوان" 1 وقد يكون صوت المَلَكِ نفسه في أول سماع الرسول له.
والحالة الثانية: أن يتمثل له المَلَكُ رجلًا ويأتيه في صورة بشر، وهذه الحالة أخف من سابقتها، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع، ويأنس رسول النبوَّة عند سماعه من رسول الوحي، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان
والهيئة التي يظهر فيها جبريل بصورة رجل لا يتحتم فيها أن يتجرد من روحانيته، ولا يعني أن ذاته انقلبت رجلًا، بل المراد أنه يظهر بتلك الصورة البشرية أُنْسًا للرسول البشري، ولا شك أن الحالة الأولى -حالة الصلصلة- لا يوجد فيها هذا الإيناس، وهي تحتاج إلى سمو روحي من رسول الله يتناسب مع روحانية المَلَكِ فكانت أشد الحالتين عليه، لأنها كما قال ابن خلدون: "انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالمَلَكِيَّةِ الروحانية، والحالة الأخرى عكسها لأنها انتقال المَلَكِ من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية"
وكلتا الحالتين مذكور فيما رُوِيَ عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله.. كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي المَلَكُ رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول".
وروت عائشة رضي الله عنها ما كان يصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شدة فقالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا"2.
والحالتان هما القسم الثالث من أقسام التكليم الإلهي المشار إليه في الآية: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
1- إِلَّا وَحْيًا
2- أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
3- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 3..
أما النفث في الرُّوع -أي القلب- فقد ذُكِرَ في قول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب" 4. والحديث لا يدل على أنه حالة مستقلة, فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين المذكورتين في حديث عائشة، فيأتيه المَلَكُ في مثل الصلصلة وينفث في روعه، أو يتمثل له رجلًا وينفث في روعه، وربما كانت حالة النفث فيما سوى القرآن الكريم.
1- رواه البخاري.
2- رواه البخاري.
3- الشورى: 51.
4- رواه أبو نعيم في الحلية بسند صحيح.
( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان )