الوحي من ناحية العقل
نقيم لك الدليل العقلي هنا على أن هذا الأمر الممكن قد وقع فعلا ذلك أنه قد أخبر بوقوعه الصادق المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم
وكل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت وذلك هو المطلوب أما الدليل على أنه قد أخبر بوقوعه الصادق المعصوم
فما مر عليك من أنباء الوحي في الكتاب والسنة
وأما الدليل على أن كل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت فإن ذلك هو مقتضى الصدق والعصمة
وأما الدليل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق معصوم فإنما هي المعجزة القائمة مقام قوله تعالى لعباده في شأن تصديق رسوله
صدق عبدي في كل ما يبلغ عني ومن ذلك أنه يوحى إليه مني
وهنا نجد أنفسنا قد انتهينا إلى المعجزة فما هي المعجزة؟
المعجزة
هي أمر يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله أو هي أمر خارق للعادة خارج عن حدود الأسباب المعروفة
يخلقه الله تعالى على يد مدعي النبوة عند دعواه إياها شاهدا على صدقه
فإذا قام إنسان ما وادعى أنه مبعوث الله إلى خلقه ورسوله إلى عباده
وقال: إن آية صدقي فيما أدعيه أن يغير الله الذي أرسلني عادة من عاداته على يدي وأن يخرج الآن عن سنة من سننه العامة في وجوده ثم قال:
وسيأتيكم الله بهذا الأمر العجاب من باب ترون أنكم فيه نابغون وعليه قادرون وإني أتحداكم زرافات ووحدانا أن تأتوا بمثل هذه الآية
وأمامكم الباب مفتوحا كما تعتقدون وفيكم النبوغ موفور كما تدعون ثم أنتم مجتمعون وأنا وحدي
قال ذلك بلغة الواثق وتحدانا هذا التحدي الظاهر في وقت يثور فيه على عقائدنا وعاداتنا وأخلاقنا ويسفه فيه أحلامنا
وأحلام أمثالنا من آبائنا ونحن أحرص ما نكون على تعجيزه وتبهيته والغلبة عليه والظفر به دفاعا عن كرامتنا
وانتصارا لأعز شيء لدينا
ثم لم يلبث أن قام وقمنا وأجمع أمره وأجمعنا وإذا نحن جميعا بعد محاولات ومصاولات لم نستطع أن نأتي بمثل ما أتى به
فضلا عن أعظم منه. مع أننا أمة وهو فرد
ومع أنه قد دخل علينا من أيسر الطرق في نظرنا ومن أشهر فن في زماننا ومع أنه قد أعطانا الفرصة الكافية لمناظرته
وأنصفنا كل إنصاف من نفسه
هل يشك ذو مسكة من عقل في أن هذا الإنسان المتفوق الممتاز صادق في رسالته محق في دعايته
خصوصا إذا عرفنا فوق ذلك كله أنه نشأ فينا على الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق من لدن صباه وطفولته إلى يوم مبعثه ورسالته
لو أنه جاء بالمعجزة من باب لا نعرفه لقلنا رجل حذق فنا من الفنون التي لا علم لنا بها أو تعلم صناعة من الصناعات التي لم نحط بخبرها
أما وقد جاءنا من الناحية التي نشهد لأنفسنا فيها بالتفوق والسبق فلا يسعنا إلا الإذعان له والإيمان بما جاء به ما دمنا منصفين
ولنضرب لك مثلا: جاء موسى عليه السلام بمعجزته عصا من الخشب لا روح فيها ولا حركة ولا لين ولا رطوبة
ثم ألقاها باسم الذي أرسله فإذا هي حية تسعى بينما الأمة التي تحداها بذلك كانت قد تفوقت في السحر وحذقته
وضربت فيه بأوفر سهم وأوفى نصيب خصوصا أنهم أمة وهو فرد. وهم نابغون في السحر
وهو مع نشأته فيهم لم يعرف يوما من الأيام بمعالجة السحر.
وهم معتزون بعددهم وعددهم وسلطانهم وهو خلو من هذه الأسباب والمظاهر
فهل يبقى للشك ظل بعد أن ألقى موسى عصاه
فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
الحق أبلج. ولذلك كان أول من آمن به هم السحرة أنفسهم لأنهم أعرف بالسحر ومقدماته ونتائجه
وقد رأوا رأي العين أن ذلك الإعجاز ليس من نوع هذا السحر المبني على مقدمات يستطيع كل إنسان أن يزاولها
ولها نتائج محدودة لا يمكن أن يتجاوزها نعم لم يطق السحرة صبرا عن المسارعة إلى الاعتراف والخضوع للحق
بعد ما تبين مهما كلفهم ذلك أن يقتلوا أو يصلبوا وقالوا لفرعون مليكهم ومعبودهم بالأمس
{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}
اقرأ إن شئت الآيات بعدها في سورة طه إلى قوله سبحانه: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}
قل مثل ذلك في معجزة كل رسول أرسله الله قله في عيسى عليه السلام وإبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى
وخلقه من الطين كهيئة الطير بإذن الله أمام قوم نبغوا في الطب أيما نبوغ ومهروا فيه أيما مهارة
وقل مثل ذلك وأكثر من ذلك في خاتم الأنبياء سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم
وما جاء به من آيات بينات ومعجزات واضحات وحسبك القرآن وحده برهانا ساطعا بل براهين ساطعات:
كل مقدار ثلاث آيات منه حجة قاطعة تقوم في فم الدنيا إلى يوم الساعة. تتحدى العالم بما يكون فيها من أسرار الفصاحة
والبيان والعلوم والمعارف وأنباء الغيب وشواهد الحق
أضف إلى ذلك أن الذين شوفهوا بخطابه عند مهبط الوحي كانوا أئمة الفصاحة وفرسان البلاغة بضاعتهم الكلام والتفنن في إجادته.
وصناعتهم التنافس في النثر وديباجته والشعر ورونقه وكرامتهم مرتبطة بما يجيدون في هذا الباب لا بما يجمعون من الذهب
أو يحملون من ألقاب. حتى بلغوا في هذا الميدان شأوا لا يبارى وغاية لا تدرك. وما يكون لنا أن نطلق العنان هنا للقلم.
وإلا ضاق بنا التأليف والزمن. وأنت خبير بإعجاز القرآن وما كتب في إعجاز القرآن.
فاكتف بهذه الإشارة الخاطفة
وإن أردت المزيد فعليك بما كتب في إعجاز القرآن
(مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقانى )