أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن
أول ما نزل على الإطلاق
ورد في ذلك أقوال أربعة:
القول الأول وهو أصحها: أنه صدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله سبحانه: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}
ودليله ما يأتي: 1- روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك
ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: إقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ".
فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ"
فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: "ما أنا بقارئ".
فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}
وفي بعض الروايات حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
فرجع بها إلى خديجة يرجف فؤاده إلى آخر الحديث وهو طويل. وفلق الصبح: ضياؤه.
والتحنث المراد به التعبد وأصله ترك الحنث لأن هذه الصيغة تدل على التجنب والتنحي عن مصادرها ونظيره التهجد والتأثم والتحرج.
وغطني بفتح الغين وتشديد الطاء المفتوحة أي ضمني ضما شديدا حتى كان لي غطيط وهو صوت من حبست أنفاسه بما يشبه الخنق
والجهد بفتح الجيم يطلق على المشقة وعلى الوسع والطاقة وبضم الجيم يطلق على الوسع والطاقة لا غير وهما روايتان.
2- وصحح الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائله عن عائشة أيضا رضي الله عنها أنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
3- وصحح الطبراني في الكبير بسنده عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقا وعليه ثوبان أبيضان
فإذا تلا هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
قال: هذه أول سورة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
4- وردت آثار في هذا المعنى أيضا في بعضها زيادة تعرفها من رواية الزهري وهي:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بحراء إذ أتى الملك بنمط من ديباج مكتوب فيه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ا. هـ.
والنمط بفتح النون والميم هو الثياب والديباج هو الحرير. القول الثاني أن أول ما نزل إطلاقا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
واستدل أصحاب هذا الرأي بما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وفي رواية نبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي" زاد في رواية: "فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو" - يعني جبريل- زاد في رواية: "جالس على عرش بين السماء والأرض فأخذتني رجفة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} ". لكن هذه الرواية ليست نصا فيما نحن بسبيله من إثبات أول ما نزل من القرآن إطلاقا بل تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة الوحي وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضا عن أبي سلمة عن جابر أيضا فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثثت حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت: "زملوني فزملوني. فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان اهـ قلت: وجثثت على وزن فرحت معناه ثقل جسمي عن القيام وسببه فزع الرسول وخوفه عليه الصلاة والسلام. فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرا استند في كلامه على أن أول ما نزل من القرآن هو المدثر إلى ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي وكأنه لم يسمع بما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحي قبل فترته من نزول الملك على الرسول في حراء بصدر سورة اقرأ كما روت عائشة فاقتصر في إخباره على ما سمع ظانا أنه ليس هناك غيره اجتهادا منه غير أنه أخطأ في اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة في القول الأول ومعلوم أن النص يقدم على الاجتهاد وأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال فبطل إذا القول الثاني وثبت الأول. القول الثالث: أن أول ما نزل هو سورة الفاتحة. وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما رواه البيهقي في الدلائل بسنده عن ميسرة عمر بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت على نفسي أن يكون هذا أمرا". قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة. فانطلقا فقصا عليه فقال: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأفق". فقال: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى ما يقول. ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} ولكن هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به على أولية ما نزل مطلقا وذلك من وجهين: أحدهما أنه لا يفهم من هذه الرواية أن الفاتحة التي سمعها الرسول كانت في فجر النبوة أول عهده بالوحي الجلي وهو في غار حراء بل يفهم منها أن الفاتحة كانت بعد ذلك العهد وبعد أن أتى الرسول إلى ورقة وبعد أن سمع النداء من خلفه غير مرة وبعد أن أشار عليه ورقة أن يثبت عند هذا النداء حتى يسمع ما يلقى إليه. وليس كلامنا في هذا إنما هو فيما نزل أول مرة. الثاني: أن هذا الحديث مرسل سقط من سنده الصحابي فلا يقوى على معارضة حديث عائشة السابق في بدء الوحي وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبطل إذا هذا الرأي الثالث وثبت الأول أيضا. بيد أن صاحب الكشاف عزا هذا القول الثالث إلى أكثر المفسرين ولكن ابن حجر فنده فيما ذهب إليه من هذا العزو وصرح بأن هذا القول لم يقل به إلا عدد أقل عن القليل. القول الرابع: أن أول ما نزل هو {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} واستدل قائلوه بما أخرجه الواحدي بسنده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأول سورة اقْرَأْ. وهذا الاستدلال مردود من ناحيتين أيضا إحداهما أن الحديث مرسل كسابقه فلا يناهض المرفوع. الثانية: أن البسملة كانت بطبيعة الحال تنزل صدرا لكل سورة إلا ما استثني. إذن فهي نازلة مع ما نزل من صدر سورة اقرأ فلا يستقيم اعتبار الأولية في نزولها قولا مستقلا برأسه. (مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقانى )