إمكانية الوحي ووقوعه
ازدهرت الحياة العلمية وبددت أشعتها كل ريبة كانت تساور الناس إلى عهد قريب فيما وراء المادة من روح،
وآمن العلم المادي الذي وضع جل الكائنات تحت التجربة والاختبار بأن هناك عالمًا غيبيًّا وراء هذا العالمَ المشاهَد،
وأن عالَم الغيب أدق وأعمق من عالَم الشهادة
وأكثر المخترعات الحديثة التي أخذت بألباب الناس تحجب وراءها هذا السر الخفي الذي عجز العلم عن إدراك كنهه
وإن لاحظ آثاره ومظاهره، وقَرَّبَ هذا بُعْدَ الشقة بين التنكر للأديان والإيمان بها مصداقًا لقوله تعالى
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1
وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2
فالبحوث النفسية الروحية لها في مضمار العلم الآن مكانتها
ويساندها ويُقرِّبها إلى الأفهام تفاوت الناس في مداركهم وميولهم وغرائزهم
فمن العقولِ العبقريُّ الفذ الذي يبتكر كل جديد، ومنها الغبي الذي يستعصي عليه إدراك بديهي الأمور، وبين المنزلتين درجات
والنفوس كذلك، منها الصافي المشرق، والخبيث المعتم
وجسم الإنسان يطوي وراءه روحًا هي سر حياته
وإذا كان الجسم تبلى ذرَّاته وتفنى أنسجته وخلاياه ما لم يتناول قسطه من الغذاء
فجدير بالروح أن يكون لها غذاء يمدها بالطاقة الروحية كي تحتفظ بمقوماتها وقيمها
وليس ببعيد على الله تعالى أن يختار من عباده نفوسًا لها من نقاء الجوهر وسلامة الفطرة ما يعدها للفيض الإلهي
والوحي السماوي، والاتصال بالملأ الأعلى، ليُلقي إليها برسالاته التي تسد حاجة البشر في رقي وجدانه
وسمو أخلاقه، واستقامة نظامه، وهؤلاء هم رسله وأنبياؤه
ولا غرابة في أن يكون هذا الاتصال بالوحي السماوي
فالناس اليوم يشاهدون التنويم المغناطيسي، وهو يوضح لهم أن اتصال النفس الإنسانية بقوة أعلى
منها يُحدث أثرًا يُقرِّب إلى الأفهام ظاهرة الوحي؛ حيث يستطيع الرجل القوي الإرادة أن يتسلط بإرادته على من هو أضعف منه فينام نومًا عميقًا،
ويكون رهن إشارته، ويُلَقِّنه ما يريد فيجري على قلبه ولسانه
وإذا كان هذا فعل الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟ 3
ويسمع الناس الأحاديث المسجلة التي تحملها اليوم موجات الأثير، عابرة الوهاد والنجاد، والسهول والبحار،
دون رؤية ذويها، بل بعد وفاتهم
وأصبح الرجلان يتخاطبان في الهاتف، أحدهما في أقصى المشرق، والآخر في أقصى المغرب
وقد يتراءيان مع هذا التخاطب، ولا يسمع الجالسون بجانبهما شيئًا سوى أزيز كدوي النحل الذي في صفة الوحي
ومَن منا ليس له حديث نفس في يقظته أو منامه يدور في خلده دون أن يرى متكلمًا أمامه؟
هذه وغيرها أمثلة تفسر لعقولنا حقيقة الوحي
وقد شاهد الوحي معاصروه، ونُقِلَ بالتواتر المستوفي لشروطه بما يفيد العلم القطعي إلى الأجيال اللاحقة
ولمست الإنسانية أثره في حضارة أمته، وقوة أتباعه، وعزتهم ما استمسكوا به وانهيار كيانهم وخذلانهم ما فرَّطوا في جنبه
مما لا يدع مجالًا للشك في إمكان الوحي وثبوته
وضرورة العودة إلى الاهتداء به إطفاء للظمأ النفسي بِمُثُلِهِ العليا، وقيمه الروحية
ولم يكن رسولنا صلى الله عليه وسلم أول رسول أُوحِيَ إليه، بل أَوْحَى الله تعالى إلى الرسل قبله بمثل ما أَوْحَى إليه
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }
وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4
فليس هناك في نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم- ما يدعو إلى العجب، ولذا أنكر الله على العقلاء هذا في قوله
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}5
1 فصلت: 53
2 الإسراء: 85
3 انظر النبأ العظيم ص75
4 النساء: 163، 164
يونس 22:5
( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان )