1- قيل: آخر ما نزل آية الربا، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت آية الربا" والمراد بها قوله تعالى: {يَاالَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} البقرة: 278.. 2- وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}البقرة: 281... الآية, لما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير: "آخر شيء نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ... الآية. 3- وقيل: آخر ما نزل آية الدَّيْنِ، لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب: "أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدَّيْنِ" والمراد بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} البقرة: 282.. الآية. ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، آية الربا، فآية {وَاتَّقُواْ يَوْمًا} فآية الدَّيْنِ، لأنها في قصة واحدة. فأخبر كل راوٍ عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وبهذا لا يقع التنافر بينها. 4- وقيل: آخر ما نزل آية الكلالة. فقد رَوَى الشيخان عن البرَّاء بن عازب قال: آخر آية نزلت: {بَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة} النساء: 176 ... الآية، وحُمِلَتْ الآخرية هنا في قول البراء على أنها مقيدة بما يتعلق بالمواريث. 5- وقيل: آخر ما نزل قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}التوبة: 128 ... إلى آخر السورة. ففي المستدرك عن أُبِّيِّ بن كعب قال: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى آخر السورة، وحُمل هذا على أنها آخر ما نزل من سورة "براءة". ففيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أُبَيِّ بن كعب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} في آخر سورة براءة. 6- وقيل: آخر ما نزل سورة المائدة، لما رواه الترمذي والحاكم في ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- وأجيب بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام، فلم تنسخ فيها أحكام. 7- وقيل: آخر ما نزل قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} آل عمران: 195.. لما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: "آخر آية نزلت هذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} ... إلى آخرها، وذلك أنها قالت: يا رسول الله.. أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء: 32، ونزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الأحزاب: 35, ونزلت هذه الآية، فهي آخر الثلاثة نزولًا، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة". ويتضح من الرواية أن الآية المذكورة آخر الآيات الثلاث نزولًا، وأنها آخر ما نزل بالنسبة إلى ما ذُكر فيه النساء. 8- وقيل: آخر ما نزل آية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء: 93.. لما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. والتعبير بقوله: "وما نسخها شيء" يدل على أنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدًا. 9- وأخرج مسلم عن ابن عباس قال:"آخر سورة نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} أي: سورة النصر", وحُمل ذلك على أن هذه السورة آخر ما نزل مُشعرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما فهم بعض الصحابة، أو أنها آخر ما نزل من السور. وهذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من الرسول، أو قال ذلك باعتبار آخر ما نزل في تشريع خاص، أو آخر سورة نزلت كاملة على النحو الذي خرجنا به كل قول منها. أما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} المائدة: 3, فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، ويدل ظاهرها على إكمال الفرائض والأحكام، وقد سبقت الإشارة إلى ما رُوِي في نزول آية الربا، وآية الدَّيْن، آية الكَلالة، وغيرها بعد ذلك. لذا حمل كثير من العلماء إكمال الدين في هذه الآية على أن الله أتم عليهم نعمته بتمكينهم من البلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، وحجهم وحدهم دون أن يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وقد كان المشركون يحجون معهم من قبل وذلك من تمام النعمة: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قال القاضي أبو بكر الباقلاني في "الانتصار" مُعلقًا على اختلاف الروايات في آخر ما نزل: "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب" . ( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ) مثلان من أوائل وأواخر مخصوصة== نضع بين يديك هنا مثلين من أوائل وأواخر مخصوصة ببعض الأحكام الشرعية لنلحظ فيهما سير التشريع الإسلامي وتدرجه الحكيم. 1- ما نزل في الخمر روى الطيالسي في مسنده عن ابن عمر قال: نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية فقيل: حرمت الخمر فقالوا: يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم. ثم نزلت هذه الآية {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقيل حرمت الخمر قالوا: يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم. ثم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر". 2- ما نزل في أمر الجهاد والدفاع لم يشرع الجهاد دفاعا في صدر الإسلام على الرغم من أن الأذى كان يصب على المسلمين من أعدائهم صبا. بل كان الله يأمر بالعفو والصفح ومن ذلك قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكانت أمرا صريحا لهم بالعفو والصفح حتى يأتي الله بأمره فيهم من القتال ويتضمن ذلك النهي عن القتال حتى يأتي أمر الله. ثم شرع القتال دفاعا في السنة الثانية من الهجرة بقوله تعالى في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . ثم حض الله عليه حضا شديدا في آخر الأمر فنزلت سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن. وفيها قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}