الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد رسول الله, صلى الله عليه وسلم
لقد وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته إلى الناس، فوجد منهم نفورًا وقسوة، وتصدى له قوم غلاظ الأكباد فُطِروا على الجفوة، وجُبِلوا على العناد, يتعرضون له بصنوف الأذى والعنت، مع رغبته الصادقة في إبلاغهم الخير الذي يحمله إليهم، حتى قال الله فيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الكهف: 6. فكان الوحي يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترة بعد فترة، بما يثبِّت قلبه على الحق، ويُشْحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته، لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه. فإنها سحابة صيف عما قريب تنقشع. يبيِّن الله له سُنته في الأنبياء السابقين الذين كُذِّبوا وأُوذوا فصبروا حتى جاءهم نصر الله، وأن قومه لم يكذبوه إلا علوًّا واستكبارًا، فيجد عليه الصلاة والسلام في ذلك السٌّنَّة الإلهية في موكب النبوة عبر التاريخ التي يتأسى بها تسلية له إزاء أذى قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ, وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الأنعام: 33، 34، {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} آل عمران: 184. ويأمره القرآن بالصبر كما صبر الرسل من قبله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الأحقاف: 35.. ويطمئن نفسه بما تكفل الله به من كفايته أمر المكذِّبين: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا, وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} المزمل: 10، 11.. وهذا هو ما جاء في حكمة قصص الأنبياء بالقرآن: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} هود: 120. وكلما اشتد ألم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتكذيب قومه، وداخله الحزن لأذاهم نزل القرآن دعمًا وتسلية له، يهدد المكذِّبين بأن الله يعلم أحوالهم، وسيجازيهم على ما كان منهم: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} يس: 76، {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يونس: 65. كما يبشره الله تعالى بآيات المنعة والغلبة والنصر: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} المائدة: 67، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} الفتح: 3، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} المجادلة: 21. وهكذا كانت آيات القرآن تتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تباعًا تسلية له بعد تسلية، وعزاء بعد عزاء، حتى لا يأخذ منه الحزن مأخذه ولا يستبد به الأسى، ولا يجد اليأس إلى نفسه سبيلًا، فله في قصص الأنبياء أسوة، وفي مصير المكذِّبين سلوى، وفي العدة بالنصر بُشرى، وكلما عرض له شيء من الحزن بمقتضى الطبع البشري تكررت التسلية، فثبت قلبه على دعوته، واطمأن إلى النصر. وهذه الحكمة هي التي رد الله بها على اعتراض الكفار في تنجيم القرآن بقوله تعالى: {َذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} الفرقان: 32. قال أبو شامة : "فإن قيل: ما السر في نزوله مُنَجَّمًا؟ وهَلَّا أُنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}الفرقان: 32. يعنون: كما أُنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله: {كَذَلِكَ} أي أنزلناه مفرَّقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، وأشد عناية بالمرسَل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول المَلَك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل""الإتقان" جـ1 ص41 . ( مباحث في علوم القرآن لمناع القطان )