التصنيف : تاريخ النشر: 06-03-2017 | عدد الزيارات: 2549القسم: نزول القرآن
نزول القرآن
معنى نزول القرآن
هذا مبحث مهم في علوم القرآن بل هو أهم مباحثه جميعا لأن العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن وأنه كلام الله وأساس للتصديق بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام حق. ثم هو أصل لسائر المباحث الآتية بعد في علوم القرآن. فلا جرم أن يتصدرها جمعاء ليكون من تقريره وتحقيقه سبيل إلى تقريرها وتحقيقها. وإلا فكيف يقوم البناء على غير أساس ودعام؟. ولأجل الإحاطة بهذا المطلب العزيز نتكلم إن شاء الله على معنى نزول القرآن جاء التعبير بمادة نزول القرآن وما تصرف منها في الكتاب والسنة ومن أمثلته قوله سبحانه في سورة الإسراء: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف". وهو حديث مشهور بل قيل فيه بالتواتر كما سيأتي. لكن النزول في استعمال اللغة يطلق ويراد به الحلول في مكان والأوي به. ومنه قولهم نزل الأمير المدينة والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه إحلال الغير في مكان وإيواءه به. ومنه قوله جل ذكره: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ويطلق النزول إطلاقا آخر في اللغة على انحدار الشيء من علو إلى سفل نحو نزل فلان من الجبل. والمتعدي منه يكون معناه تحريك الشيء من علو إلى سفل ومنه قوله سبحانه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} . ولا ريب أن كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال الله للقرآن ولا في نزول القرآن من الله لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية. والقرآن ليس جسما حتى يحل في مكان أو ينحدر من علو إلى سفل سواء أردنا به الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية الأزلية أم أردنا به نفس تلك الكلمات أم أردنا به اللفظ المعجز لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو الكلمات الغيبية عن الحوادث وأعراض الحوادث ولما تعرفه من أن الألفاظ أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها كما يقولون. إذن فنحن بحاجة إلى التجوز والمجاز بابه واسع وميدانه فسيح. وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته. أما على أن المراد بالقرآن الصفة القديمة أو متعلقها فإنزاله: الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة لإنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقية بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي اللزوم لأن إنزال شيء إلى شيء يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشيء به إن كان عاقلا ويستلزم إعلام من يطلع عليه من الخلق به مطلقا وإذن فالمجاز مرسل. وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز فمعنى إنزاله الإعلام به أيضا ولكن بوساطة إثباته هو أو إثبات داله فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة والعلاقة اللزوم كذلك والمجاز مرسل كسابقه. ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية بأن يشبه إعلام السيد لعبده بإنزال الشيء من علو إلى سفل بجامع أن في كل من طرفي التشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسيا بالنسبة إلى المشبه به ومعنويا بالنسبة إلى المشبه. وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال فما يجري من التجوز في أحدهما يجري نظيره في الآخر. وقل مثل ذلك في التنزيل والتنزل. وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التقى معها هو التنويه بشرف ذلك الكتاب نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علوا كبيرا كما قال تعالى في فاتحة سورة الزخرف: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} . ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام وذلك من وجوه ثلاثة: أحدها: أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ولا ريب أن القرآن كلام فتأويل إنزاله بالإعلام رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه ومفهوم من تحققه. ثانيها: أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم هو إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة البشر عليه من هذا الحق. ثالثها: أن تفسير الإنزال بالإعلام ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته وعلى أي تنزل من تنزلاته.(مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقانى )