أول عهد لظهور هذا الاصطلاح
لقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن أن أول عهد ظهر فيه هذا الاصطلاح أي اصطلاح علوم القرآن هو القرن السابع.
لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي المتوفى سنة 330 هـ اسمه البرهان في علوم القرآن.
وهو يقع في ثلاثين مجلدا والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدا غير مرتبة ولا متعاقبة من نسخة مخطوطة.
وإذن نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان أي إلى بداية القرن الخامس بدلا من القرن السابع.
ولقد كنت مشغوفا أن أقرأ مقدمة كتابه هذا لآخذ اعترافا صريحا منه بمحاولته إنشاء هذا العلم الوليد.
ولكن ماذا أصنع والجزء الأول مفقود غير أن اسم الكتاب يدلني على هذه المحاولة.
وكذلك استعرضت بعض الأجزاء الموجودة فرأيته يعرض الآية الكريمة بترتيب المصحف ثم يتكلم عليها من علوم القرآن خاصا كل نوع منها بعنوان فيسوق النظم الكريم تحت عنوان:
القول في قوله عز وجل. وبعد أن يفرغ منه يضع هذا العنوان: القول في الإعراب ويتحدث عنها من الناحية النحوية واللغوية:
ثم يتبع ذلك بهذا العنوان القول في المعنى والتفسير ويشرح الآية بالمأثور والمعقول. ثم ينتقل من الشرح إلى العنوان الآتي:
القول في الوقف والتمام مبينا تحته ما يجوز من الوقف وما لا يجوز. وقد يفرد القراءات بعنوان مستقل فيقول القول في القراءة.
وقد يتكلم في الأحكام الشرعية التي تؤخذ من الآية عند عرضها ففي آية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} من سورة البقرة
يذكر أوقات الصلاة وأدلتها وأنصبة الزكاة ومقاديرها. ويتكلم على أسباب النزول وعلى النسخ وما إلى ذلك عند المناسبة.
فأنت ترى أن هذا الكتاب أتى على علوم القرآن ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد بل على طريقة النشر والتوزيع
تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزعها. حتى كأن هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع من علوم القرآن عند المناسبات.
وأيا ما يكن هذا الكتاب فإنه مجهود عظيم ومحاولة جديرة بالتقدير في هذا الباب.
جزى الله مؤلفه خير الجزاء. ثم جاء القرن السادس فألف فيه ابن الجوزي المتوفي سنة 597 هـ كتابين:
أحدهما اسمه فنون الأفنان في علوم القرآن والثاني اسمه المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن.
وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية. وفي القرن السابع ألف علم الدين السخاوي المتوفي سنة 641 هـ كتابا سماه جمال القراء
وألف أبو شامة المتوفي سنة 665 هـ كتابا أسماه المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز وهما كما قال السيوطي عبارة عن طائفة يسيرة
ونبذ قصيرة بالنسبة للمؤلفات التي ألفت بعد ذلك في هذا النوع.
ثم أهل القرن الثامن فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفي سنة 794 هـ كتابا سماه البرهان في علوم القرآن
وتوجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة التيمورية في دار الكتب المصرية تقع في مجلدين ناقصين.
ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة فدرج فيه وترعرع إذ ألف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفي سنة 873 هـ كتابا يقول السيوطي عنه:
إنه لم يسبق إليه وقد اشتمل على بابين: الأول في ذكر معنى التفسير والتأويل والقرآن والسورة والآية.
أما الثاني ففي شروط القول في القرآن بالرأي. وبعدهما خاتمة في آداب العالم والمتعلم غير أنه قال أخيرا ولكن ذلك لم يشف لي غليلا ولم يهدني إلى المقصود سبيلا اهـ.
وفي هذا القرن أيضا وضع جلال الدين البلقيني كتابا سماه مواقع العلوم من مواقع النجوم.
وقد رتبه على ستة مباحث الأول في مواطن النزول وأوقاته ووقائعه وفيه اثنا عشر نوعا1.
الثاني في سند القرآن وهو ستة أنواع2. الثالث في أدائه وهو ستة
1 المكي، المدني، السفري، الحضري، الليلي، النهاري، الصيفي، الشتائي، الفراشي، أسباب النزول، أول ما نزل، آخر ما نزل.
2 المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي صلى الله عليه وسلم، الرواة، الحفاظ.
أنواع أيضا1. الرابع في ألفاظه وهو سبعة أنواع2. الخامس في معانيه المتعلقة بأحكامه وهو أربعة عشرة نوعا3. السادس في معانيه المتعلقة بألفاظه وهو خمسة أنواع4. وبذلك يكمل الكتاب كله خمسين نوعا غير ما فيه من أنواع الأسماء والكنى والألقاب والمبهمات. وهي لا تدخل تحت حصر.
وفي هذا القرن التاسع أيضا ألف السيوطي كتابا سماه التحبير في علوم التفسير ضمنه ما ذكره البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها وأضاف إليه فوائد سمحت قريحته بنقلها. وقد أوفى هذا الكتاب على الاثنين بعد المائة من الأنواع. وفرغ الإمام من تأليف تحبيره هذا سنة 872 هـ غير أن نفسه الكبيرة لم تقنع بهذا المجهود العظيم بل طمح إلى التبحر والتوسع والترتيب فوضع كتابه الثاني كتاب الإتقان في علوم القرآن وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن. ذكر فيه ثمانين نوعا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج ثم قال بعد أن سردها نوعا نوعا ولو نوعت باعتبار ما أدمجته فيها لزادت على الثلاثمائة اهـ.
وتوفي السيوطي رحمه الله سنة 911 هـ في مفتتح القرن العاشر وكأن نهايته كانت نهاية لنهضة التأليف في علوم القرآن عليه سحائب الرحمة والرضوان فلم نر من سار في هذا المضمار مثله بعده كما لم نر من بزه فيه قبله.
1 الوقف، الابتداء، الإمالة، المد، تخفيف الهمزة، الإدغام.
2 الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه.
3 العام الباقي على عمومه، العام المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خص فيه الكتاب السنة، ما خصت فيه السنة الكتاب المجمل، المبين، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيد، الناسخ، المنسوخ، نوع من الناسخ والمنسوخ وهو ما عمل به مدة معينة والعامل به واحد من المكلفين.
4 الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر.
**( مناهل العرفان في علوم القرآن ) للزرقانى